رمضان- غزة، القدس، والإيمان في وجه التحديات

ألم تلحظوا ذلك يا سادة؟
لسنوات طوال مضت، أصبحت قضايا غزة وفلسطين، والقدس الشريف، والمسجد الأقصى المبارك، بالإضافة إلى الممارسات الإسرائيلية الاستفزازية والمفرطة في العدوان، بمثابة عنوان معتاد ومألوف لشهر رمضان الفضيل. ففي خلال شهر رمضان، وعلى مدار خمسة أعوام متتالية، ودون أي مسوغ أو مبرر معقول، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تجد دائمًا الذرائع الواهية لاقتحام المسجد الأقصى بأقدام المستوطنين اليهود المتطرفين النجسة، وإثارة الفتن والاضطرابات والتحريض، أو فرض قيود مشددة على دخول جموع المصلين إلى المسجد الأقصى المبارك، أو ارتكاب أي استفزازات أخرى، محولين بذلك شهر رمضان المبارك إلى محنة عظيمة للفلسطينيين الأبرياء وإلى تحدٍ صارخ للمسلمين قاطبة في شتى بقاع العالم. بل إن تزامن شهر رمضان مع عيد الفصح اليهودي في السنوات الأخيرة قد أوجد مواجهة مثيرة للاهتمام والتأمل.
إن شهر رمضان المبارك، الذي يعلمنا في جوهره العميق فهمًا دقيقًا لمشاعر الآخرين، والتعاطف الصادق معهم، والشعور بالشفقة والعطف والرأفة تجاه من هم أشد حاجة وعوزًا منا، يتحول للأسف الشديد إلى حدث مغاير تمامًا أمام جدار عيد الفصح اليهودي. ففي هذا المشهد المؤسف، يصر اليهود المتطرفون على ذبح الأضاحي، التي تعد جزءًا أصيلًا من طقوس هذا العيد، تحديدًا تحت أنقاض ما يزعمون أنه هيكلهم المقدس في المسجد الأقصى، ويسعون جاهدين لاقتحام المسجد الأقصى بالقوة الغاشمة، متجاهلين تمامًا معتقدات المسلمين ومشاعرهم المقدسة وأوضاعهم الإنسانية الصعبة، بينما يُحظر عليهم الدخول منعًا باتًا.
وهكذا، فبدلًا من أن نرى مجرد لقاء عابر بين يومين دينيين، نشهد تصادمًا حقيقيًا وواضحًا بين رؤيتين متباينتين تمامًا للآخرين وللعالم أجمع وللسلام المنشود. وبالتأكيد، يمكن لمن يرغب في عقد مقارنة بين هذين اليومين أن يقطع شوطًا طويلًا في فهم طبيعة هذا الصراع.
لا ريب إطلاقًا في أن أجواء شهر رمضان الفضيل تخلق بيئة خصبة من التعاطف والتراحم مع الآخرين. ومن الواضح بجلاء أنه يساعد على فهم أحوال الفقراء والمساكين، مما يسهم في إنشاء وبناء قناة تفاهم مشتركة بين مختلف الفئات الاجتماعية. وغالبًا ما يتم تناول هذا الموضوع بأسلوب أدبي رفيع، وبالطبع ينبغي الاستمرار في القيام بذلك على هذا النحو.
ولكن الجميع يعلم تمام العلم أن هذا ليس هو الهدف الأساسي من الصوم. بل هو في واقع الأمر أحد آثاره الجانبية المحمودة وفوائده الجمة. وتعد هذه الحقيقة من أولى الحكم والمبادئ التي يعرفها حتى الأطفال الصغار الذين يتلقون العلوم الإسلامية الأساسية.
في الآونة الأخيرة، انتشرت على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة شبهة واهية تحاول إقناع الناس بأن الهدف الوحيد من الصيام هو فهم أحوال الفقراء والمحتاجين فقط، وكأنها اكتشفت سرًا عظيمًا لم يسبقها إليه أحد. وتطرح هذه الشبهة سؤالًا مضللًا وخادعًا: "إذا كان الهدف من الصيام هو فهم أحوال الفقراء، فلماذا يصوم الفقراء أنفسهم إذن؟". وهذا السؤال يعد مريحًا للغاية لأولئك الذين لم يعرفوا الصيام قط في حياتهم، ولم يفكروا أبدًا في فهم الآخرين أو الشعور بهم أو التعاطف معهم. إنه سؤال يرضي أنانيتهم المفرطة ويجعلهم يشعرون بسعادة ورضا زائفين. فلنعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولنقرأ سورتَي الفلق والناس ونتجاوز هذه الوسوسة الخبيثة.
إن أول ما يشعرنا به شهر رمضان المبارك، بغض النظر عن المكان أو الزمان الذي نعيش فيه، هو أنه عبادة عظيمة فرضت على الأمم التي سبقتنا وعلى الذين ليسوا متواجدين معنا في الزمان والمكان الحاليين. فمنذ قديم الأزل، ارتبط شهر رمضان بأقدس الأماكن الإسلامية وأكثرها روحانية، وعلى رأسها: القدس الشريف، والمسجد الأقصى المبارك، وفلسطين الحبيبة، وغزة العزة.
وتشكل هذه الأماكن جزءًا لا يتجزأ من روح شهر رمضان المبارك، فإذا تم عزل شهر رمضان عن هذه الروح المتأصلة فيه، وتجاهلنا قدرته الفائقة على إحياء شعور الوحدة والتاريخ المشترك في جميع أرجاء العالم الإسلامي، فإن كل الكلمات والعبارات التي تقال عن هذا الشهر الفضيل تصبح مجرد كلمات جوفاء لا معنى لها، بل ينبغي أن تكون هذه الكلمات موجودة؛ لتعزيز هذا البعد الروحي والتاريخي العميق. وفي الواقع، فكما أن لشهر رمضان كيانه الخاص والمستقل تمامًا عن إرادتنا الفردية أو الجماعية، لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن ننكر أن للقدس والمسجد الأقصى كيانهما الخاص وأنهما يلعبان دورًا محوريًا في هذه العملية بإرادة إلهية عليا.
لقد وقعت معركة بدر الكبرى، وهي أول معركة فاصلة خاضها المسلمون ضد جموع المشركين، في شهر رمضان المبارك. كانت تلك المعركة صراعًا عظيمًا بين أفراد من نفس القبيلة واجهوا بعضهم بعضًا بسبب اختلاف معتقداتهم ومبادئهم الراسخة. كان الدافع الأساسي لأحد طرفي المعركة هو الدفاع المستميت عن التوحيد الخالص والحرية والعدالة وكرامة الإنسان، في مواجهة الظلم والاستعباد والجاهلية التي تفقد الإنسان شخصيته وكرامته الإنسانية. لقد تطلب خوض هذه المعركة من أبطال بدر الأشاوس أن يواجهوا أقاربهم وأهلهم وعشيرتهم الذين قيدتهم القيم والمعتقدات والنظم الجاهلية البالية بسلاسلها الثقيلة حتى الموت. ولذلك، لم تكمن بطولة أبطال بدر الأفذاذ فقط في مواجهتهم لعدو أشد قوة وأكثر عددًا وعدة، بل في قدرتهم الفائقة على مقاومة أقاربهم وأهلهم عندما تطلب الأمر منهم ذلك؛ دفاعًا عن الحق والحقيقة الساطعة.
إن المعارك في الإسلام هي في جوهرها معارك تؤسس رابطة الأخوّة الحقيقية الصادقة على أساس الإيمان العميق والمبادئ المشتركة السامية، بدلًا من روابط الدم والجينات التي تفرض علينا جميعًا عند الولادة دون إرادتنا أو اختيارنا. إنها صراع جماعة اتحدت بفضل الله ومنته وكرمه بعد أن كانت أعداء لدودين لبعضها بعضًا، لتصبح أخوة حقيقية متينة مؤسسة على الإيمان الراسخ. ولا شك أن أفضل وقت لخوض هذه المعارك المصيرية هو شهر رمضان المبارك، الذي لطالما جمع الناس حول هذا الإيمان القوي عبر مر العصور والأزمان.
أليس استقبال أهالي غزة الأبطال الصامدين، بكبارهم وصغارهم ونسائهم ورجالهم، لشهر رمضان الفضيل، بعد خمسة أشهر ونصف من العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي حول غزة إلى ركام وأنقاض، يشبه إلى حد كبير استقبال أبطال بدر لشهر رمضان؟ بل إن قيام هؤلاء الأسود البواسل، الذين يخوضون إحدى أسمى المعارك البطولية التي سجلها التاريخ بأحرف من نور ضد الظلم والاستبداد العنصري المتغطرس، باستقبال شهر رمضان بإضاءة الفوانيس المبهجة على الأنقاض وتحويل هذا الجو المأساوي إلى جو احتفالي بهيج، لهو بطولة عظيمة بحد ذاته. وهذا يذكرنا على الفور بقول الشاعر التركي العظيم محمد عاكف أرصوي عن شهداء جناق قلعة الأبرار: "لم يكن لأبطال بدر إلا هذا القدر من الشرف العظيم".
لقد كتب صديقنا العزيز غوكهان أوزجان نصًا أدبيًا رائعًا، عبر فيه عن رؤيته الثاقبة والعميقة لواقع غزة المأساوي. فقد يرى البعض في غزة اليوم مجرد أنقاض وخراب يمثل انتصارًا مدمرًا لإسرائيل ومقاومة يائسة وبائسة من قبل الغزيين. ولكن ما يجب أن نراه حقًا في غزة هو الإيمان العميق الراسخ الذي تجسد في الواقع الملموس كآية بينة من آيات الله العظام.
"الإيمان، والابتلاء، والصبر، والاستسلام… عندما نشهد ما يحدث في غزة المنكوبة، ندرك تمام الإدراك مدى سهولة نطق هذه الكلمات بالنسبة لنا نحن الذين ننعم بالأمن والأمان. فنحن لا نكابد أي ثمن حقيقي لنطق هذه الكلمات أو استخدامها في جملنا الاعتيادية. لذلك، تصبح هذه الكلمات الثقيلة خفيفة في أذهاننا، مجرد تكرار ممل ورتيب لكلمات فقدت معناها الحقيقي، أو حفظ سطحي بلا تدبر أو تفكر".
"تذكرنا غزة الأبية، بما تقدمه من تضحيات جسام وباهظة، بحقيقة هذه الكلمات ووزنها الحقيقي. تعلمنا غزة كيف يجب علينا فهمها وعيشها وتطبيقها وحملها في قلوبنا وعقولنا. تذكرنا بها بأشد طريقة وأصدقها وأقوى وقع على النفس".
كم يليق الإيمان بأهالي غزة الشرفاء الأبطال، "نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لأن نكون على قدر ما ندعي من الإيمان به سبحانه وتعالى".
